يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه.."، فهو معلم أتباعه لا معلم المسلمين ولا الإنسانية كما يقال يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه هو: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، فهذه الأصول الخمسة كان يكفر بها أرسطو جميعاً.
ثم ذكر ابن القيم تعظيم أتباعه له، وأنه وضع المنطق -كما أن الخليل بن أحمد وضع عروض الشعر- وأن الفارابي هو المعلم الثاني، لكن الفارابي وضع التعاليم الصوتية، كما وضع أرسطو التعاليم الحرفية، والتعاليم الصوتية التي وضعها الفارابي هي الموسيقى، فـالفارابي هو المعلم أو الفيلسوف الموسيقي الذي لم يعرف العالم القديم مثله؛ لأنه كان يضرب على القيثار فيهز القوم من الطرب حتى يضحكوا جميعاً، ثم يغير الضرب على القيثار حتى يبكوا جميعاً! هكذا كان يؤثر في القلوب الضعيفة المدمنة على هذا اللهو، لكن المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أن هذا حرام، وقلبه قوي بالإيمان؛ فإن هذا اللهو والموسيقى عنده مثل نهيق الحمير أو نباح الكلاب، فيتأذى منه ويريد أن يفارقه ويبتعد عنه، فأصحاب القلوب المريضة الذين كانوا في عهد الفارابي كان يضحكهم ثم يبكيهم، وفي الأخير كان يعزف حتى يناموا جميعاً، ثم يخرج ويتركهم.. وهذا يدل على قوة التأثير!
وهذا مما ينسب إليه، فهو المعلم في الموسيقى، وعند الفلاسفة أن الشعر والموسيقى هما أرقى الفنون، وبعضهم يجعل الفنون أربعة: الشعر، والموسيقى، والتمثيل، والحكمة، فأما التمثيل -ولله الحمد- فقد سلمت منه الأمة الإسلامية في تلك الفترة، وهذا مما نعجب له.. إذ كيف سلم المسلمون من التمثيل والمسرحيات، بالرغم من أنهم نقلوا كل ما عند اليونان؟! ولعل السبب -والله أعلم- هو أن الذوق العربي -والإسلامي عموماً- يرفض هذا التصنع، فلذلك أخذوا عنهم جميع الفنون، ولم يأخذوا كلامهم في المسرحيات وكيفيتها، ولا في أنواع الشعر؛ لأن العرب أصلاً يرون أن شعرهم غاية الشعر، وبيانهم غاية البيان، ويعتبرون كلام وشعر غيرهم رطانة أعاجم، ولذلك يسمي العرب الدابةُ: عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية: أعجمياً، وكأن الذي لا يتكلم العربية لا يتكلم شيئاً؛ لأنه لا يقول شيئاً ولا يفهم شيئاً إلا دعاءً ونداءً، ولذلك فلم يهتم أحد بترجمة كلام أرسطو في فن الشعر، فهذا أشد تلامذته حباً له يمر عليه مروراً عابراً لا يهمه أمره، لكن في هذا العصر، عصر الضعف والانحطاط، أصبحنا نسمع في المقابلات الشعرية من يقول: تأثرت بشعر إيليوت.. أو بشعر وردزورث، أو كلولردج، أو شيللي، وقد يكون تأثر بمن لا قيمة له عند قومه، فإن بعض الشعراء لا تعرفهم أممهم ولا دولهم، فأتينا نحن وأخذنا عنهم حتى الشعر، وأصبح القدوة هم شعراء الانحطاط من الغربيين وأشباههم، وكذلك فن التمثيل -كما يسمى- أخذ منهم برمته.. أفلام العنف، والجنس، والرعب، وكل المصائب، أخذها وقلدها -مع الأسف- متأخرو المسلمين، والله المستعان.
فالمقصود: أن هذه الفنون الأربعة التي وضعها أرسطو، رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، ورد عليه أيضاً السيرافي، وغيرهم.